
وإن كانت لكبيرة إلا علي الذين هدي الله
بقلم / محمـــد الدكـــروري
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا عزّ إلا في طاعته، ولا سعادة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في ذكره، الذي إذا أُطيع شكر، وإذا عُصي تاب وغفر، والذي إذا دُعي أجاب، وإذا استُعيذ به أعاذ، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا أما بعد يقول الله تعالى ” وما كان لمؤمن ولا مؤمنه إذا قضي الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ” وهذه الطاعة وذلك التسليم هو الذي أقسم الله تعالى بنفسه على نفي الإيمان عمن لا يملكه في قوله تعالى ” فلا وربك لا يؤمنون حتي يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ” والصحابة الكرام رضي الله عنهم في أمر تحويل القبلة أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوجه في صلاتهم ناحية المسجد الأقصى فتوجهوا وإنقادوا.
ولبثوا على ذلك مدة سنة وبضعة شهور، فلما أمروا بالتوجه ناحية المسجد الحرام سارعوا وامتثلوا، بل إن بعضهم لما علم بتحويل القبلة وهم في صلاتهم، تحولوا وتوجهوا إلى القبلة الجديدة، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال ” بينما الناس يصلون الصبح في مسجد قباء، إذ جاء رجل فقال قد أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم قرآن، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، فتوجهوا إلى الكعبة” البخاري ومسلم، فكان تحويل القبلة إختبارا وتربية للصحابة على السمع والطاعة، والتسليم لله ورسوله، فالله سبحانه لا يأمر العباد إلا بما فيه مصلحة لهم، ولا ينهاهم إلا عما فيه مضرة عليهم، وتشريعاته سبحانه جميعها لحكمة يعلمها سبحانه وإن لم نعلمها، وله أن يكلف عباده بما شاء، وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة، والحجة البالغة في جميع ذلك.
وما على المؤمن إلا الإستجابة والإنقياد لأوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، وكما أن من الدروس المستفادة من حادثة تحويل القبلة هو إمتحان المؤمن الصادق واختباره، فالمؤمن الصادق يقبل حكم الله جل وعلا، بخلاف غيره، ولقد بيّن الله سبحانه وتعالي أن هذا التحويل كان بلاء وإختبارا ليتميّز عند الناس المؤمنون المخلصون من الشاكين المرتابين، والله تعالى يبتلي من شاء من عباده بما يشاء من الأحوال، فأما من كان من أهل الإيمان، فسيقول سمعنا وأطعنا، وأما أهل الزيغ، فسيقولون سمعنا وعصينا، فتحويل القبلة جلى وأظهر الإيمان في نفوس المؤمنين، والنفاق والشرك في نفوس أهله، فالمؤمنون قالوا سمعنا وأطعنا كل من عند ربنا، أما اليهود، فقالوا خالف قبلة الأنبياء، ولو كان نبيا لاستمر على قبلته، وأما المنافقون، فقالوا ما يدري محمد أين يتجه في صلاته.
إن كانت الأولى حقا فقد تركها، وإن كانت الثانية حقا فقد كان على الباطل كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا، ولقد كان العرب يعظمون البيت الحرام في جاهليتهم، ولما كان الإسلام يريد إستخلاص القلوب لله وتجريدها من التعلق بغيره، وتخليصها من كل نعرة، وكل عصبية لغير منهج الله تعالى، فقد إنتزعهم من الإتجاه إلى البيت الحرام، وشاء لهم الإتجاه إلى المسجد الأقصى لفترة ليست بالقصيرة وما ذاك إلا ليخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية، ثم لما خلصت النفوس، وجهها الله تعالى إلى قبلة خاصة تخالف قبلة أهل الديانات السماوية الأُخرى، وقد وصف الله تعالى هذه القدرة على تخليص النفوس بأنها “كبيرة” حيث قال تعالي ” وإن كانت لكبيرة إلا علي الذين هدي الله ” أي وإن كان هذا الأمر عظيما في النفوس، إلا على الذين هدى الله قلوبهم.
وإن كانت لكبيرة إلا علي الذين هدي الله
وأيقنوا بتصديق الرسول المصطفي صلي الله عليه وسلم، وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فمع الهدى لا مشقة ولا عسر في أن تخلع النفس عنها أي رداء سوى الإسلام، وأن تنفض عنها رواسب الجاهلية، وأن تتجرد لله تعالى تسمع منه وتطيع، وحيثما وجّهها الله تعالى تتجه.